الأخوين رحباني ، أهل الشتاء وخبز الدراويش
دق دق دق ... تفضل
قد جمّلوا حياتنا ، قد رفعوا نسبة الذوق بنا ، قد أطعموا الفقراء لوز وسكر .
النحل حام فوق نغماتهم ، ثم انطلق طروداً محمّلة بالرحيق الأصيل ، تنشره على الدنيا بسخاء ، دون قيد ولا شرط .
هما ، عاصي ومنصور ، خميلة ، بثّت بها البيئة جذوتها ، أعطتهما البيئة أوراقها الثبوتية وإخراج قيدها المصاغ في رحم أمها ، وإرثها المتراكم من كل جمال وصدق ، بثت كل ما بخاطرها وأشجانها بقلبهما جمالاً كريماً ، فصاغوه لحناً وكلاماً وتوزيعاً موسيقياً وفياً . صاغوا كل هذا بأبعاد ثلاثية ، التقطت كل إيحاء من أصغر العناصر ، وأوحته بصدق . أوحته بأعلى قيمة فلسفية وروحية وجمالية .
فكانا أعدل وأوفى من مثل عناصرها ، كلها ، دون اعتراض أو كتم أي صوت ، أو همسة ، أو نسمة ، أو عواء أو ثغاء أو شذا أو أزيز أو زقزقة أو برد وحر أو روث القطيع . حتى أصبحا هما رسالة إرثنا للآت .
صاغوا الشتاء ولحّنوه ، نثروا الثلج على الجبال ورشّوا فوقه سكّر ، العشب على حواف دروب البلدة ، أنعشوه برذاذ الندى .
نثروا أدق تفاصيل الحياة ، نثروها قبل أن تغسل وجهها عند الفجر ، هكذا ، وهي بقميص النوم .
كرهوا المكياج .
أنطقوا الطيور ورقّصوا النحل ، دلّلوا الثعالب والواوي ، صاغوا حالة ذئب الثلج بمحبة ، وما اعترضوا على ضباع الليل والبر ، ( طلّعوا ) الحيّة من وكرها .
في كل ما صاغوه من فن ، تسحبك تجليات البيئة إلى نزهة ، في الكرم مع بنت الجيران وبحراسة الناطور ، أو تحت رذاذ المطر بالدروب الطويلة ، نزهة لا ينقصها شيء ، لا القهوة ولا النبيذ ولا الشجن ولا سواقي الحب . رحلة برفقة الوطن كاملاً .
في كل ما صاغوه من فن ، تجلّت البيئة ، في كل نغمة ، يستطيع القطيع أن يرعى بها ، وذئب الثلج من بعيد يعوي ، والثعالب تتراكض بالحقول ، والعصافير بأعلى مزاج لها .
حتى بالقطعة الموسيقية الصامتة ، من دون شعر ولا قصيد .
أنسنوا كل شيء ، وارتقوا به إلى أعلى مصاف الرومانسية الملائكية ، إلى أعلى مراتب التأمل الإنساني .
عصروا من العنب ( عوافي وعُمُر ) ، زرعوا دروب الحقل بحكايات الدهر ، هرّبوا الثعالب من وجه النواطير ولم يقتلوها . لم يقتلعوا أنياب الذيب ، ولم يرشّوا عطر على روث القطيع .
طبق من قش ، عليه زيت و زعتر ، ومناقيش و( مطّارة) ماء ، وركوة قهوة ، يرسلونه كل يوم ، قبل صياح الديك إلى الناطور أبو ديب . حتى وإن كان ناطور الثلج .
و هم نواطير غيوم الغيث .
فخارة نبيذ عتيق ، مع حفنة لوز ، وخيارتين ، يرسلونها بكل مساء للصيادين المتعللين تحت الصنوبر ، ليكملوا سرد قصصهم ( حديث الصيادين ) .
تبولة وعرق ، على لوح خشب ، كل ليلة بآخر السهرة ، يقدموه لحكايا المهربين الآتين من أنفاق جبال الصخر والصوان .
عمّروا منبر للزعران ، وشلل الطرق والميناء .
لم يترفعوا عن شيء من وجوديات الحياة ، من نثريات العيش والطبيعة ، لم يقللوا من شأن كذب الصيادين ولا مبالغات المهربين ولا تمادي شيخ الميناء .. بشرط واحد هو : أن يكون طبيعي ، بقميص النوم أو البيجاما أو ملابس العمل ، مكللا بالصدق والإنسانية ، بدون أي مكياج .
تقدموا من جذوة كل هذا ، ورفعوه إلى مصاف الملائكية ، أو ربما نثروا الملائكة عليه .
حكايتهم عن الحبيب والحبيبة لم تكن بين النجوم ، ولا بالقصور ، ولا بمدائن كسرى . بل كانا يلتقيان ( بالحكورة ) أو بالكرم ، أو حول موقدة ، أو بغرفة شتوية صغيرة حول ( الوجاق ) الحطبي ، أو بدروب بين الكروم ، هو على حماره يجر عربة أغاني ، وهي تمشي وبيدها غمر قصب ، ينتظران ( راجح ) بياع الخواتم الآتي من بين نواطير الثلج ، الواثب من كذبة خبرية المختار .
حقنوا قلوبنا برحيق بلادنا حقنة الإدمان الأبدي ، وعلقوها أيقونة بالصدر ، لذا ، فإن لهم في حمضنا النووي بصمة أزلية .
جعلونا نعشق البرد والشتاء والثلج والصباح .
رفعوا من شأن القدس بوجداننا ، صاغوا الأنبياء ، زرعوا طيف الملائكة في بلادي على تراب حقول صوت فيروز .
كل هذا بجملتهم الموسيقية .
تجاوزوا أجمل الكلام وأروع القصائد في توزيعهم الموسيقي .
عجيبة هي ( شيفرة ) الأخوين رحباني ، قد أعطت الإيحاء والطيف الموسيقي حقه الكامل ، حيث لم يحصل عليه من أحد كما حصل عليه منهم .
هذا الإيحاء الطيفي ، قد أصبح مثل بطانة حريرية تحت رداء الفن ، يرد البرد عن جسمه ، ويحمي مفاتنه من عيون الزعران ، ويوحي للفلاسفة بأعماق جمالية تدعوهم للغوص والتأمل بكنز عتيق مدفون .
بأصابعه العشرة ، قد أقرّ لهم ( البيانو ) بأنهم أوجدوا له مكانه الأصلي ، وأنهم خير من استخدمه .
بأصابعه العشرة قد أقر لهم ( الأوكورديون والناي والقانون ) بنسج مزيج بينها وتكاتف لدرجة التوحّد .
كانوا الأكثر براعة في ( الهندسة الاجتماعية ) ببناء العلاقة بين الآلات الموسيقية كلها . وأكثر من هذا ، فقد كانوا الأكثر براعة في نسج الوصال بين الطبيعة والآلات الموسيقية .
كرهوا الكهرباء والتكنولوجية ، ومكياجات الصوتيات .
هم : موزعون أولاً ، شعراء ثانياً ، ملحنون ثالثاً . كما قال محمد عبد الوهاب في تصنيفه لهم .
فحين يوزعون أي أغنية ، مثل ( جارة الوادي ، خايف أقول .. ) لا الكلام ولا اللحن لهم ، لكن بالتوزيع فقط ، استطاعوا أن ( يرحبنونها ) .
كل شاعر حين يصبح نهج ، يكون حالة خاصة .
كل ملحّن حين يصبح نهج ، يكون حالة خاصة .
كل موزع حين يصبح نهك ، يكون حالة خاصة .
وكل ، وكل ..
لكن الأخوين رحباني هما عالم خاص جداً ، أو ، كون خاص جداً ، لا يمكن أن ينتهجه أحد .
مسرحهم :
كان أفضل مسرح غنائي بالعالم ، بجدارة .
وصلوا بفلسفتهم التي قدموها على المسرح إلى أعلى درجة إنسانية متعقّلة ، لمست سقراط وأفلاطون وطاغور وبوذا وجبران والمسيح .
( زاد الخير ) لأنها صادقة ، صارت مشكى ضيم جدها المختار المهاب .
الفقيرة المقطوعة من شجرة ( هالة ) قد لَوَت عنق الملك والعرافين بصدقها . وأصلحت مسار سياسة البلاد ( بشوية ) صدق عندها ، دحرت مملكة عمّرها الكذب .
هيفاء ، تردع جدها حين ( يزوّدها شوي ) في حديثه عن صيده وعن مغامراته بالتهريب .
حوارات واسكيتشات من أرق وأعذب الكلام وأعلى مستويات التلقائية .
هما ، أول من عمل للفن بشكل مؤسسة كاملة تشيد مشروعاً ، جيشهم مسلح مدجج بالفن والمواهب ، يقلع بمراكبه من مرفأهم يجوب عباب البحر لينضح منه سحب الفنون .
الأغاني الوطنية :
هم من قدموا الأغاني الوطنية ، حيث لم يعسكروا الأغنية الوطنية ، لم يتوجهوا فقط إلى جذوة الحماس والقتال ، ولا التحريض المباشر على الحرب . تركوا كل الاندفاعات الشخصية ( الأنوية )
وذهبوا إلى الوطن الكائن بالوجدان ، وهذا أرقى ما قُدّم به الوطن في الفن .
أي أغنية صاغوها ، دون استثناء ، تُعتَبَر أغنية وطنية ، لشدة ما تحمله من وجدانيان البيئة ، حتى أغنية ( سنة عن سنة ، عميغلى عاقلبي عهد الولدنة ... يا حلو يا حبيبي المابيعك بالدني ... ) أو ( طريق النحل ... ) ( بكرة لما بيرجعوا الخيالي ) التي تعود بنا إلى نشأتنا .
لو جمعوا من كل إقليم من هذا العالم شخص ، وحللوا دمه أو ال ( dna ) أو وجدانه ، لظهر عند أهل إقليمنا تركيب زائد هو : الأخوين رحباني وفيروز .
إنهم دليل بيئة بلادنا . ودليل تضاريسنا النفسية .
هما الصورة الجغرافية والبيئية الصحيحة لإقليمنا ، وآسف أن أقول إن كل إنسان من إقليمنا ، لا يروق له فنهما ، فإن نفسيته غير متطابقة مع بيئته أو ( مضروب نفسياً ) بالقياس لنا .
ملاحظة :
كان هذا أكثر موضوع شاق وصعب قمت بكتابته ، لأنني أكتب عن وجداني ، كان الحذر على آخره ، وكثير من الألم ، لأنني أتناول تجليات ومكنونات بلادي في صميمي ، والتي اكتنزتها أعمال الرحابنة وسرت بي . وألف ألف بُعدِ حام في رأسي وقلبي . لذاااااااا ، لم أتناول موسيقاهم ، لأن الدخول في موسيقاهم يحتاج لأكثر من هذا بكثييييير ( الشعبي ، البيئي ، الموشح ، القصيد ، الوطني ، الفولكلور بكل أنواعه ، الطرب ، ووووو ... )
ومع هذا ، تبقى شهادتي مجروحة ، كما شهادتكم جميعاً عنهما مجروحة ، لأنكم تتناولون وجدانكم هنا .
وليد غالب بلان
الثلاثاء يوليو 15, 2014 12:26 pm من طرف لطفي الياسيني
» دموع
الثلاثاء يوليو 15, 2014 12:25 pm من طرف لطفي الياسيني
» سمراء
الثلاثاء يوليو 15, 2014 12:24 pm من طرف لطفي الياسيني
» انا الملوم انا الجاني على وطني / د. لطفي الياسيني
الثلاثاء يوليو 15, 2014 12:20 pm من طرف لطفي الياسيني
» مات الضمير وشيعوا جثمانه / د. لطفي الياسيني
الثلاثاء يوليو 15, 2014 12:17 pm من طرف لطفي الياسيني
» قصيدة في وصف فـلـسـطـيـن قبل النكبة / الحاج لطفي الياسيني
الثلاثاء يوليو 15, 2014 12:15 pm من طرف لطفي الياسيني
» الرحلة
السبت مايو 03, 2014 9:43 am من طرف تيسير نصرالدين
» حول الوضع الثقافي الراهن
الثلاثاء أكتوبر 29, 2013 6:07 pm من طرف mriame
» صباح ..................مساء الخير من الجنينة
السبت يناير 19, 2013 10:47 pm من طرف سوسن سين
» كبة البطاطا بالبرغل
السبت يناير 19, 2013 10:39 pm من طرف سوسن سين
» عثمنة الخطاب السني الرسمي
الأربعاء ديسمبر 26, 2012 11:30 am من طرف تيسير نصرالدين
» الصفقة الصفيقة
الخميس نوفمبر 22, 2012 6:07 pm من طرف تيسير نصرالدين
» الإعلام
الثلاثاء أكتوبر 16, 2012 5:16 pm من طرف تيسير نصرالدين
» مجموعة جديدة
الأحد سبتمبر 23, 2012 10:24 am من طرف تيسير نصرالدين
» ثورة الحرابيق
الأحد سبتمبر 23, 2012 10:09 am من طرف تيسير نصرالدين