صباح ، خلقت عروس لتبقى عروس
قدمت رسالة غفران طوييييلة بالتفاؤل ، فكانت تستحق أن نقول عنها ( أم العلاء المعري ) للرد على تشاؤم أبو العلاء .
ترددتُ كثيراً بالكتابة عنها ، فهي رواية طويلة ، لكن حين بدأت ، أحسست كأن أرنباً هارباً قد وثب على لوحة المفاتيح ، فأحس بالأمان وبدأ يلعب على مفاتيح الحروف .
لا أشك في معاناة أمها حين كانت حبلى بها أشد معاناة قبل أن تلدها . لا شك بأن أمها في فترة الوحام قد اشتهت الفرح ولم تجده ، فظهر بنشأة المولودة وتصرفاتها .
كانت مسرعة لتخرج ، تقفز ، تصفق ، تغني ، تلوّح ، تدور في رحم أمها .
كانت مسرعة ، لتغني ، لترقص ، وتملأ الدنيا بهجة وحيوية وتفاؤل .
ترى ، كم عانى من شقاوتها الجيران والزوّار ؟؟ هل قالوا عنها ( حسن صبي ) ؟؟
مسرعة لتتزوج أكثر وأكثر وتحقق الرقم القياسي ، حتى وإن صعقها كل من تزوجها ، لكنها كانت تؤمن بأنها تملك فرحاً تهزم به كل صعقة أو فشل تواجهه فقالت : ( الله يقصف عمر الحب ، وعمر اِل بتصدق رجّال ) . ولم تتخلى عن دورها بأنها خُلقَت عروس لتبقى عروس . ونادت بأعلى جواب : ( المجوَّز الله يزيدو .. يبعتلو اللي بيريدو ، وكل ال بدو يتجوز يوقف ، يوقف ويرفع إيدوووو .. أوووو ،، أووووو أووو ) .
مسرعة لترتدي أجمل الثياب ، فوهبها الملك فريد الأطرش ما كان يليق وينطبق على شخصيتها ، فألبسها ( أحلى فستان ، ملون من كل الألوان ... يا حلوة لبنان ) ، و ( يا دلع يا دلع ... ) ثم دخل كنه الأنثى بها لتقول من أحلن الملك أيضاً ( شو إسمك قرب وشوشني ،، خلي كلامك ينعشني .. ) ، هذه المرأة قصتها قصة والله ، ديروا بالكم يا شباب ، قربوا لأحكي لكم السر بين وبينكم .... صباح أشارت إلى أن الوشوشة تنعش ولها مفعول على الأنثى .
كانت مستعجلة لتسجل أرقاماً قياسية بالتندّر بكل شيء .
ماذا أتت لتعمل هذه الصبية ؟؟
هل أتت لتفرض الشقاوة والحيوية والتفاؤل على الفن ؟؟
أذني الزئبقية ، بحثت مطولاً بغناء الشقية حتى تجد زلّة أو كبوة في جملة غنائية أو حرف أو أوف ، فما وجدت شيء من هذا .
توحي بأنها تغني فقط لتفرح كيفما اتُفق ، للشقاوة كيفما اتُّفق .
إنما بهذا الإيحاء كانت كلاعب السيرك البارع ، حين تنقبض قلوب الناس ظناً بأنه سيقع ، لكنه ينجو وينظر إليهم ضاحكاً ، مسروراً لما سببه بدورتهم الدموية من نشاط وحركة وتدفق .
الشحرورة :
( قوموا ، نرقص إيد بإيد .. ونتلّي ، الدنيي زغاريد
ونغني ونكتب عالحيط ،، الله يحمي جسر البيت
هالبيت ال كلو عواميد .. قوموا قوموا ....
قوموا تانعمل دويرة .. ونرقص أم المنجيرة
ونتجمع حول المنديرة .. ونبوّسها و نعمل عيد )
هذا نداؤها الدائم للناس . وتصر عليه في أداءها لكلمة ( قوموووووا ... ونتللللييييي ) دققوا معي بهذا .
الشحرورة ، أرهقت الفرح فرحاً ، والبهجة بهجة ، وملأت الناس بالحيوية .
كل ما قالته كان دعوة للبهجة والفرح ، قالته بصوتها الرنان ، صوتها القوي الرائع ، المفعم بالفرح ، الذي يملأ الوادي بالخضرة والماء والحيوية من بعد ما جف ، الصوت الذي جمّع الشباب والصبايا بالساحة .
( دق الكف وقوم عالساحة ... فرجينا الدبكة وأفراحا
خلي المنجيرة الحنونة ... ترقص كل ال بيحبوني
وتبكي عيوني الذباحة )
صوت قادر على القول ، قادر على الإلتفاف والاهتزاز كأنه يسير محمولاً على ( هيدروليك ) مهما اهتز وضاعف اهتزازه يبقى انسيابي . رشيق كحجل ( يكرج كرج ) بخفة دم وتوازن تام من رأس التلة إلينا .
وقفت أمام من يعجز الجميع على الوقوف أمامه بالغناء ( وديع الصافي ) وقفت بشخصية الفلاحة ( سلمى ) فبارزته بطول النفس والصمود على الطبقة الواحدة فترة قياسية ، مع الإلتفافات والرشاقة بالصوت . ولو كنتُ سأكتب ( الأوووووووف ) بطولها، لما حوتها الصفحة كلها ، وهي بذاتها قالت :
( وديع صوته أحلى من صوتي بكثير ، بس أنا كنت أثبت وجودي قدامه بمد الصوت والعُرَب لفترة أكثر ) .
صوتها يقول المقام الموسيقي من أوله لآخره بتجانس تام .
لفظها لحرف ( الحاء والراء ) ولا ألطف .
الشحرورة :
حين تغني الشجن الحزين ، تدخل على الأغنية كدخولها على حديقة ، ووجدت بها شهيد مضمّخ بالدم ، فتلتفت للورود التي كللت الشهيد ، وتغني للورد التي كللت الشهيد ، إيه نعم ، فهي لا تعطي للحزن فرصته إلا بما قل ودلّ .
( جينا الدار نسأل عالحبايب ،،، لقينا الدار تبكي عاللي غايب )
أغنية لوعة وفراق ، قالتها صباح ، ألبستها ما قل ودل من الحزن والشجن والفراق المكنون باللحن والكلام ، لكنها حقنتها بما استطاعت من إيحاء الفرح .
صباح :
غنت لزكريا أحمد ، ومحمد عبد الوهاب ، وفريد الأطرش ، وبليغ حمدي ، والأخوين رحباني ، وفيليمون وهبي ،،،، بالوقت الذي لم ترفض به ألحان لشاب لم تصل شهرته لجيرانه بعد ( عصام رجي ، وإيلي شويري ، وملحم بركات ).
غنت لزكي ناصيف ، وروميو لحود ، بالوقت الذي لم ترفض به ألحان لولد لم يحلق ذقنه بعد الياس كرم .
من دواعي تواضعها وخلوها من العقد ، كانت تجد أي لحن ، لأي كلمة صادقة ، بسيطة ، تجده بزقاق البيت ، أو بأزقة الحي ، أو أسوار الحدائق ، فتصب عليه من صوتها فرحاً وغنج ، وتطلقه برحلة لا تخطئ مرماها إلى القلوب .
تحمل اللحن والكلمة كما تحمل النحلة الرحيق وحبوب الطلع ، لتجعله عسلاً صرفاً .
( عندي بستان يا سعدة ،، كلو ليموت شموطي
وبرنيطة بيي بعدا ... علقانة براس التوتة )
صباح تغني كطفلة غاضبة معترضة ، تغني بقوة الأطفال.
كرمها وطيبة قلبها وتسامحها :
صباح لم تشتم ولا بكلمة واحدة أحداً طيلة عمرها ، وما أدراك ما طيلة عمرها . وكل من آذاها فقد هزمته بفرحها وجعلته ( غلطان بالنمرة ) . حتى إنها أجابت على سؤال عن هيفاء وهبي بقولها : صوتها حلو ، ناعم ، هيفاء بتجنن .
طيبة قلب ، أو سعة صدر أو قلب كبير ، تحلّت به صباح ، ربما لم يكن لديها وقت للزعل والغضب ، فهي تريد أن تفرح وتُفرِح ، حتى لو كان حبيبها ( ترللي ، بيزعل وبيرضى عالهلّة ) ، وحتى لو وعدها حبيبها بمشوار من صيفية لصيفية وهي تقول ( يا حبيبي وعدني بمشوار بشي سفرة بحرية .. أنا بعرف مش رح بتروح ، بس إضحك عليي ) .
صباح تخلو تماماً من العقد ، يظهر هذا في كل تصرفاتها وكلامها وأجوبتها .
حين عصف فهد بلان بأرض الفن في الستينيات ، كلهم حاربوه ، حسدوه ، وقفوا صفاً بوجهه وهاجموه ،،، لكن صباح شبكت يدها بيده ومثلت وغنت معه ، وارتبط اسمها باسمه حتى الآن ، إلى أن ظن معظم الناس أنها كانت زوجته ، وهذا لم يحصل .
إن تصرفها هذا ، في سيرها مع فهد بلان ومرافقتها له ، كان ذكاء حاد جداً منها ، كمن ينحني أمام العاصفة أو يساير هبوبها الهدار ، لألا ينكسر .
صباح كريمة كرم حاتمي ، بالطبع ، فمن يخلو من العقد ، فهو بالطبع إنسان كريم ، أكرمت أهلها والغريب والصديق والقريب والبعيد ، وكانت سبب لشهرة الكثير من الملحنين .
صباح :
مأذون البلد ، وبائع أكاليل الورد ، وجراح التجميل ، أوجدت لهم عملاً يدر عليهم أموالاً طائلة .
هي امرأة أتت على الدنيا كعلامة أو رقم قياسي للتندر .
عمرها طويييييل ، وما زالت تعشق الجمال ، والأناقة ، وتعمّر فرحنا ، وترفض الخنوع لهموم الحياة . ترفض الإنصياع لما يفسده الدهر بمظهر الناس ، لدرجة أن ابن راغب علامة ( حط عينو عليها ) .
صباح :
التندر بالحديث عن سيرورة حياتها يوازي الحديث عن فنها . هي رواية للرواة ، وحديث للنقاد . هي حكاية طويلة .
هي تغني وتمثل منذ 65 عام ، فماذا سنقول ونقول ، وماذا سنختزل ونختزل ؟؟ لذا ، بأقصر الطرق قلت هذا عنها .
علني ، مش ( غلطان بالنمرة ) .
هي ووديع كانا أول من فرضا الأغنية اللبنانية بلهجتها المعهودة ، على الأذن العربي .
الآن تحاول بعضهن أن تنبن عن صباح ( نجوى كرم ، ديانا حداد ، رنا عامر ، ،،، ) لا أظن أبداً بأن كل تلك الصغيرات قادرات على تعبئة مكان الشحرورة .. لا يملكن الفرح ولا الكرم ولا جودة صوتها ولااااا . لكن الطوفان لا يعرف ولا يرى ولا يميّز بين الثرى والثريا .
علينا بالسعي ( للخلف ، للوراء ) كي نجد ونلمس وندرك من هم الأصول وماذا فعلوا .
كي لا ( نغلط بالنمرة ) .
وليد غالب بلان
الثلاثاء يوليو 15, 2014 12:26 pm من طرف لطفي الياسيني
» دموع
الثلاثاء يوليو 15, 2014 12:25 pm من طرف لطفي الياسيني
» سمراء
الثلاثاء يوليو 15, 2014 12:24 pm من طرف لطفي الياسيني
» انا الملوم انا الجاني على وطني / د. لطفي الياسيني
الثلاثاء يوليو 15, 2014 12:20 pm من طرف لطفي الياسيني
» مات الضمير وشيعوا جثمانه / د. لطفي الياسيني
الثلاثاء يوليو 15, 2014 12:17 pm من طرف لطفي الياسيني
» قصيدة في وصف فـلـسـطـيـن قبل النكبة / الحاج لطفي الياسيني
الثلاثاء يوليو 15, 2014 12:15 pm من طرف لطفي الياسيني
» الرحلة
السبت مايو 03, 2014 9:43 am من طرف تيسير نصرالدين
» حول الوضع الثقافي الراهن
الثلاثاء أكتوبر 29, 2013 6:07 pm من طرف mriame
» صباح ..................مساء الخير من الجنينة
السبت يناير 19, 2013 10:47 pm من طرف سوسن سين
» كبة البطاطا بالبرغل
السبت يناير 19, 2013 10:39 pm من طرف سوسن سين
» عثمنة الخطاب السني الرسمي
الأربعاء ديسمبر 26, 2012 11:30 am من طرف تيسير نصرالدين
» الصفقة الصفيقة
الخميس نوفمبر 22, 2012 6:07 pm من طرف تيسير نصرالدين
» الإعلام
الثلاثاء أكتوبر 16, 2012 5:16 pm من طرف تيسير نصرالدين
» مجموعة جديدة
الأحد سبتمبر 23, 2012 10:24 am من طرف تيسير نصرالدين
» ثورة الحرابيق
الأحد سبتمبر 23, 2012 10:09 am من طرف تيسير نصرالدين