جوزيف صقر ، العريس الفقير
ييييي عليي أنا ،، يييي عليكِ .
لم يكن زياد يعبث حين اختار العريس الفقير ليندب حظه هكذا ( ييييي عليي أنا ) بلبننة ( لبنانية ) من كعب الدست .
سمعنا الدمشقي يقول حين يندب حظه ( وليييييي على قامتي ) وبالسويداء يقولون ( الله عليي ) وبالساحل ( قرد مقرود ) .
زياد هيك بدو .. إسألو زياد .. ما بعرف ، شوفو زياد ... استفسرو من زياد ...
هكذا كان يجيب بكل طواعية حين يسأله المحاور عما سيقولانه هو وزياد بإنتاجهما الجديد ، يصرح عن الكلام وعن الموضوع ، من دون وجل أو خوف من أن تُسرَق الفكرة ، لأن لا أحد يستطيع تقليد ما يفعلانه . ولا أحد يستطيع إتمام ما يبدأانه .
كان فعلاً الخل الوفي لمن يصعب على الجن والإنس أن تتحمل شطحاته بفنه وشخصيته .
كان الخل الوفي لزياد الرحباني .
أما أنا ، علي أن أهرب من فضاء زياد الرحباني قدر المستطاع لأخلّص جوزيف صقر من أنه منفّذ ليس أكثر لإرادة ابن عاصي و فيروز .
قبل أن نقول بأن صوته كان هو الأنسب للبيئة وللطرح الذي قدماه معاً . حيث قدما بيئة الشللية ، الشلة الملتزمة بقضايا الفقر ، والفكر اليساري ، والأوضاع العامة المزرية ، الشلة الفرحة ببكائها ، الشلة التي تفرح بمكان الدموع ، بل وتُبكي في فرحها ، التي تجتمع في غرفة بسيطة ، بطابق أرضي ، تمضي سهرتها مع قهوة وسجائر ، والأواني فالتة من الترتيب ، وصحون الفناجين مصبوغة بما طاف من الفنجان ، وفناجين بها أعقاب سجائر .
، عنا بزق ، وهنا عود ، وهناك ناي وقانون ، وبالصدر بيان .
الأهم على الإطلاق هو أن تلك الشلة ، ترفض التنازل عن الفقر إلى أن تزول مسبباته . فهي بقيادة زياد وصداه الذي هو جوزيف صقر ، كانت دائماً تحفر متجهة لتعيش وتغوص بقاع قعر الحالة . ويقولون ( نحن آخر من يخرج من الفقر بقرار منا .
تطابق هذا كله مع أطباع جوزيف صقر ، وكان صوته ملحق بهذا الطبع . جسّد عصارة هذا كله .
زياد لم يبحث عن صوت جميل ، لم يبحث عن صوت قدير ، زياد يبحث دائماً عن صوت يعبر عن نبرة تلك البيئة ، صوت تتمثل به نبرة أهل البيئة نفسها . زياد يبحث عن طبع عاشها وغاص بها وعانى منها والتزم بقضاياها . يبحث عن قلب نبض وخفق بأتونها ، وصوت يكتنز الهزلية حتى لو بكى . والأهم على الإطلاق هو خفة الدم بكل دقائق الأمور .
فكان جوزيف صقر هو ضالّة زياد ، وزياد هو مظلته .
من النادر أن ألتقي بمن يتغنى بسخرية الناس به ، بمن يضحك ويُضحِك على ما حصل معه ، بمن ينسج قصص هزلية عن صغره أمام أمانيه ، لم أجد من يتندّر على أحداث ( بهدلته ) كيفما اتجه .
هذه الحالات تحتاج لقلب طيب ونفسية خالية تماماً من التكبّر كي تقولها .
يقولون ( فقير وشبق كثير ؟؟ ) ربما هذا هو مربط خيل نسجه للهزل . ( بما إنو العيشة سودة ومش بيضا ، اجتمعنا وقررنا نسلق بيضة ) .
قال له أبو العروس ( مش كل مرة في محامي ، لكن في مثلك أمثال ) وللتندر على ما حصل به فقد أخبر رفاقه بهذا وهو يضحك .
( لبسوكي تاج ملوكي ونسيتي أهل الطرابيش .. حالة تعبانة ) ... حتى وصل به الحال إلى ألا يعشق إلا بنت المعاون ويجيبها على سؤالها عن جنون قلبه بها ( أيوا أيوا ) .
كل عمره عريس مشحّر فقير ، يدخل ليطلب يد العروس بكل تفاؤل ، ثم ويخرج من الباب هارباً وخلفه ( أواني وقطع .. ) تُرمى على رأسه قائلاً لأبيها ( طيب فهمنا ، لا تدفش ، لا تضرب ) .
يسأله أبو العروس : فقير كل هالقد ، وجاي تطلب بنات العالم ؟؟
وأتصوره يجيب : ( أنا فقير لكم ، فقير لأغني أسبابكم وأشكو حالاتكم ، عندي قلب وأسباب لأخطب بنتك ، أسبابي لا تُصرف ببنك أو بورصة ، لكن بقلبي بنك يسعّر ويصرف الأسباب بحالات تساويها بالضبط ).
لكنه يخرج دائماً مكسور الخاطر . ليتندّر على نفسه .
حتى تأقلم ولم يعد يأبه بهذا ، وبكل كبرياء قال ( مش هم بعد اليوم إن بهدلني حدا ، صارت حياتي كلها مبهدلي ).
كانا صدىً لسيد درويش الذي قدم سخريته وهزله من الشعب ، وغنى قعر الحالة بلسان الشعب .
أما جوزيف وزياد قدما هذا بلسانهما ، لبساها كثوب ، قدما مسببات الفقر والجهل والجنون والبكاء ، وغاصا وعاشا بالمسببات ولم يتنازلا عنها . قادا هذه الحالة إلى ( شر البلية ما يُضحك ) وقالا اللوعة بكبرياء . أجل ، بكبرياء .
في التمثيل :
أعمال زياد مكبلة من ألفها إلى يائها برؤيته تماماً ، لا يترك لأي مختص بأن يعمل اختصاصه بأي شاردة أو واردة بالعمل . إنما ، ومن خلال ما سمعت وشاهدت جوزيف صقر في قوله للجملة الحوارية بالسيناريو ، فأنا متأكد بأن زياد ترك لجوزيف صقر فضاء الموقف الدرامي فارغاً ، ترك له حرية التصرف والقول ، لأن جوزيف صقر نظنه بكل جملة حوارية أو موقف ، وكأنه خُلِق خصيصاً لهذه اللحظة فقط . لم يظهر بأدائه أثار التدريب أو الحفظ أو التلقين أو ترتيب الأدوار بما كُتب للمسرحية .
عجيب أداؤه في المسرحيات ، عجيب دخوله بالموقف وخروجه منه ، إنه لا يمثل ، بل الموقف يمثله . فقد أغنانا عن الرؤية واكتفينا بالسمع .
صوته لا غنىً عنه بمسرح زياد الذي هو أفضل مسرح هزل وسخرية ، مسرح البكاء الشامخ لشموخ يكظم بكائه .
أخيراً ، صار جوزيف صقر يقول ويصرخ ( ييييييييي عليي ، يييييي علييييي أنا ) لكن ، لم يصدقه أحد ، إلا زياد . ظن الجميع أنه كعادته ، لا يكترث بالفقر أو الجوع أو الانكسارات ، لكن قرحة معدته التي أصبحت سرطان بالمعدة لها ( ييييييييي ، عليي أنا ) غير شكل .
بالتأكيد ، خفة الدم والسخرية الموجودة خلقياً بصوته ، قد تسببت بتضليل صرخة الألم عن طريقها الصحيح لآذان السامعين .
لم يجد حليب كافٍ يخفف ألم سرطان معدته المتقرحة ، ولم يجد ما يوقف نزيفها ، ولم يجد ثمن صفيحات دم نقي صادق ينزف ويسحب معه قعر الحالة المحمولة به . وربما لم يجد دم خفيف كدمه .
اكتأب زياد لرحيل جوزيف صقر ، اكتأب جداً ...... وأفرغ لوعة قلبه على صديقه ب ( سلملي عليه ) .
لا يمكن الهروب من فضاء زياد الرحباني أكثر من هذا .
وليد غالب بلان
07 / 06 / 2010 الكويت
الثلاثاء يوليو 15, 2014 12:26 pm من طرف لطفي الياسيني
» دموع
الثلاثاء يوليو 15, 2014 12:25 pm من طرف لطفي الياسيني
» سمراء
الثلاثاء يوليو 15, 2014 12:24 pm من طرف لطفي الياسيني
» انا الملوم انا الجاني على وطني / د. لطفي الياسيني
الثلاثاء يوليو 15, 2014 12:20 pm من طرف لطفي الياسيني
» مات الضمير وشيعوا جثمانه / د. لطفي الياسيني
الثلاثاء يوليو 15, 2014 12:17 pm من طرف لطفي الياسيني
» قصيدة في وصف فـلـسـطـيـن قبل النكبة / الحاج لطفي الياسيني
الثلاثاء يوليو 15, 2014 12:15 pm من طرف لطفي الياسيني
» الرحلة
السبت مايو 03, 2014 9:43 am من طرف تيسير نصرالدين
» حول الوضع الثقافي الراهن
الثلاثاء أكتوبر 29, 2013 6:07 pm من طرف mriame
» صباح ..................مساء الخير من الجنينة
السبت يناير 19, 2013 10:47 pm من طرف سوسن سين
» كبة البطاطا بالبرغل
السبت يناير 19, 2013 10:39 pm من طرف سوسن سين
» عثمنة الخطاب السني الرسمي
الأربعاء ديسمبر 26, 2012 11:30 am من طرف تيسير نصرالدين
» الصفقة الصفيقة
الخميس نوفمبر 22, 2012 6:07 pm من طرف تيسير نصرالدين
» الإعلام
الثلاثاء أكتوبر 16, 2012 5:16 pm من طرف تيسير نصرالدين
» مجموعة جديدة
الأحد سبتمبر 23, 2012 10:24 am من طرف تيسير نصرالدين
» ثورة الحرابيق
الأحد سبتمبر 23, 2012 10:09 am من طرف تيسير نصرالدين