طفل لا يتجاوز الخامسة من عمره ، في نشرة الأخبار المباشرة عن فظائع وجرائم إسرائيل .
المشهد طال ، وصراخ ومنظر الطفل قطّع أوصالنا وأستقطب جلللللل عيوننا وهرجنا .
تدارك أبي لأمر ما وقال : لا تخلوه يجي إسا .. ما تخلوه يفوت لهون ، لحقوه ، لحقوه قبل ما يفوت .
سمعت فجأة ، رشفة هواء عميييييقة قريبة من أذني ، ثم ،،، يا ولديييييييي يا ولدييييييي ، يا قلبي عليك ،،، ثم وبأعلى صوته ( وما أدراكم ما هو ذاك الصوت ) ،،،، بدأ اللعن والشتم لدرجة اقتربت من الكفر :
يلعن أخت بني البشر أخو ستين ألف ملعونة ، يلعن أم ............. ، لككك وين العالم أخوات ال ......
صرخ أبي بوجهي قائلاً : ( قلتلك لا تخليه يشوف هالشوفة يا ولد ) ، ثم تابع : ( تعال خيي فهد معي عالغرفة الثانية ) .
سحبه سحب من الغرفة بعد أن ارتجّت من زلزال صوته وارتجّت عظامنا ، ثم ، طلب كأس لبن عيران كي يشربه عمي فهد ليهدأ من روع ما رآه .
أبي يعرف قلب عمي ، يعرفه جيداً من معرفته لقلبه هو شخصياً ، فهما نسخة من الحنان نفسه والعاطفة ذاتها.
جلسا بالصالون ، يدا عمي على صدغيه ، ينظر للأسفل ، غائراً في اللسعة الحارقة التي أصابت للتو قعر قلبه .
رأسه الضخم ، هامته العملاقة ، منكباه العريضان ، أناقته ، وقاره وهيبته ،،، كللللها تنوء تحت ثقل ما رآه للتو في نشرة الأخبار . طفل يصرخ ألماً .
فهد بلان ، أبو طلال ، فهد بلان فخم ، فعلاً فخم ، ملؤ رجولته ، وما أجمل وأصدق الفخامة والهيبة والرجولة حين تنوء لرؤية طفل يبكي جوعاً أو ألماً . وبكل تلقائية .
فهد بلان ، بكلمة أشد تعبيراً ، هو طفل فخم .
أزبد فمه على الجانبين، ثم ذهب إلى الحنفية ، صار يمسح عينيه وفمه وأنفه . وينظر بالمرآة ، ثم ، وضع قبضته على الحائط وضرب جبينه عليها وصار يعصرها ويميل برأسه يمين ويسار كأنه يرقق عجينة ، ويصك أسنانه .
جلسنا وحاولنا تغيير الجو ، شرب لبن عيران ، وبعد دقائق رفع يده متسائلاً : شو تركيبة هالبشر ؟؟ كيف هالشي ممكن يصير ؟؟ العمى ، في ناس ممكن تتسبب بحرق وجه طفل ؟؟ معقول الله خلق بشر هيك ؟؟ .
أنا شاطر كثير ، أنا أفهمه مثلما يفهمه أبي . افتعلت صخباً وغيرت محطة التلفزيون ، و سحبته سحب إلى موضوع آخر .
ثم وضعت شريط لزكريا أحمد يغني ( الورد جميل ) ، فقال عمي : أجلها شوي ، حرام نسمعها بهالحالة .
كأنه يوفي ذاك الطفل الجريح حداداً ، ويوفي الأغنية حقها بألا نسمعها هباءاً ، فهي من روائع الغناء العربي الأصيل .
خرجنا من البيت ، اشترينا ما نحتاجه للسهرة ، راقت أعصابنا ، واستطعت بدهائي أن أحقق ( الهزيمة ) للجميع من ذاك الإجهاد العاطفي .
عمّرنا السهرة ، وكانت نسخة عن عشرات ، بل مئات السهرات النوّاسية والخيّامية التي يشتهيها نزار قباني وحنا مينا وعمر الخيام نفسه . يشتهونها حتى لو أدى الأمر بهم ليشتروا تذكرة بألف دولار لمشاركتنا تلك السهرات .
و ( الورد جميل ، جميل الورد ، شوف الزهور وتعلم ، وتعلللللللم ، بين الحبايب تعرف تتكلّم ) .
كل واحد منا ، يطرح قلبه على الطاولة كصحن ( مزّ ) كرمة للجميع .
أحلى الأحاديث ، وأجمل الأفشات ، وأسمى المعاني ، وعواطف لاهبة ، وقهقهات هادرة ، وأشعار وحكايات عامرة ، وأنغااااام وأنغام ، ومسامات الروح متفتحة على مصراعيها.
الغرفة تعج مفعمة بالأشجان . وكلٌ منا سندباد ، كلٌ منا علاء الدين وبغنىً عن مصباحه .
حتى العفاريت والجان ، تترك أعمالها بالخير والشر ، وتجلس متفرجة كأطفال تشاهد ( إفتح يا سمسم ) .
أسترسل أنا بنغمة ، أراه ينصت لي ، عين نصف مفتوحة ، ووجهه مبتسم ، نصف موافق على ما أغنيه ، فيقول لي :
حلو يا عمي ، بس هذه فينا نقولها هيك ( يا فل يا روح ، يا روح الروووووح ، من شم هواك عمره ما ينسااااك ).
آآآآخ على ما أنعم الله عليك به . كيف بي ألا أرى شمشون الجالس برقبة عمي ؟؟ كيف تغيرت بصوته الحروف ، والمعنى واللحن ؟؟ لا أدري .
يقول أبي : شو اللي عاملو يا فهد ؟؟ أغنية يا طير ،حلوة ، يوم على يوم ، حلوة ، حنيت إلك ، حلوة .
فيسأله عمي : سفرهم طال، شو ، مش عاجبتك ؟؟
فينظر له أبي نظرة بها عتب وتوعّد ويقول : أنت فحل يا فهد ، فحل الغناء العربي ، أنت قلت ( يا ويلها ماذا بها ، أتظنني عبداً لها ، أنا لن تهون رجولتي حتى تعود لطاعتي ) . وإسا صرت تقول ( نوبة عليهم أشتكي ، نوبة على حالي ) ؟؟ ليش عبتقول هيك يا خيي ، يا فحل ؟؟ من إيمتى بتقول هيك أنت ؟؟ إذا عندك حزن أو شكوى تعال على صدري وابكي ، بس لا تغني هيك .
ينظر عمي جانباً ، مزدحم بشيء ما يريد البوح به ولا يسمح لنفسه بالبوح .
عمي الآخر ، مستلقٍ وعقاله غطى نصف جبينه ، ويده على أذنه مترنّم مع عبد الوهاب .
يدخل ابن عمي مكترث يقول لعمي فهد : تعال اسمع اللقاء مع سيد مكاوي عالتلفزيون ، عبيحكي عنك ...
فيرد عمي : أرعبتني بدخولك ، بسيطة عمي ، هوّن عليك ، روح اسمع اللقاء أنت وخبرني شو عبيقول .
فأسأل نفسي : هذا الجالس بيننا ، أمس سمعت بأذني نجيب محفوظ يمتدحه ، ويكرر مديحه وإعجابه وإطراءه أكثر من مرة بفهد بلان ، هذا الجالس بيننا كطفل ، صال وجال بالدنيا ، وشغل الناس من العراق إلى المغرب ، وكان نقطة الاستقطاب لجماهير مصر ولبنان والعرب ، بغنائه وأفلامه ، والكاريزما التي تحيط به كهالة ، هذا الذي دحر أكبر الأسماء الفنية اللامعة ، أكبرها وأشهرها ، هذا الذي بقي الإقبال الجماهيري على أشده على سينما بيروت 7 سنوات لأنها تعرض فيلماً له . هذا الذي زلزل الفن العربي بشهرته ونغمته الجديدة التي أدهش كل ملحّن في الستينيات ، هذا الذي حمل بيئتنا في صوته بتطابق تام وفرضها على الفن ، الذي لا يشبه أحداً ولم يستطع أحد أن يشبهه ، هذا الذي كان شهريار العذارى ، وساحر قلوبهن .
هذا الفخم ، أنهكني باهتمامه بالقطّة البيضاء التي دخلت ورشة بيته وخلّفت ثلاث قطط ، أنهكني بانهماكه بها ، كل يوم يمر عند العاشرة صباحاً يناديني لأنزل ، ليعطيني معلبات وطعام لأذهب للورشة وأطعم القطط ، صار برنامجه الصباحي وقد فرضه علي أنا أيضاً ، ( حرام ، هالبسّة عبترضّع أولادها ، لا تنسى تنزل المسا كمان ... ) هذا قوله كل يوم .
كالعادة ، مرّ عند العاشرة ، ذهبنا و أطعمنا القطط ، بالورشة ، خرجنا للسوق أنا وهو وزوج أختي وأبي . وصلنا بأول شارع الشعراني من الغرب ، وإذ ، عمي ينتفض لما رأى ذلك الحدث ، فتح باب السيارة وركض كمارد نحو ثلاثة شبّان يسحبون طفل فقير ، والطفل يبكي من الخوف ويحاول التملّص منهم ، صرخ بأعلى صوته : شو بدكن فيه ولاااك ؟؟ ( وأمسك الطفل من يده ووضعه خلف ظهره يحميه منهم .)
قال أبي : أيواااا ، شافهن عبيضربو طفل ، علقوا مع فهد ، يا علقتهن السودة ..
نزلت أنا من السيارة و ركضت خلف عمي .
سأل عمي الطفل : حدا منهن ضربك ؟؟
قال الطفل : بدن ياخذوني عالحبس ، وأخذوا الأغراض تبعي .
قالوا لعمي : هذا الولد يهرّب دخّان .
قال عمي : هذا الطفل يهرّب دخان ؟؟ من وين إنتو ؟؟ .
قالوا : من مفرزة ( ...... ) .
قال : مين رئيس الدورية ؟؟
أتى نحوه النقيب ، رئيس الدورية ، أمسكه عمي من ذراعه ، هزّه بقوة وانتهره : خلال دقيقة ، رجعو للطفل كللل أغراضه ، وانقلعوا من هون ، روحو أدبو الزعران اللي عندكن هناك ( .......... ) .
أعاد للطفل أغراضه وأعطاه ما به النصيب وقال له : إبعد من هون حبيبي إسا قبل ما روح أنا ، لأن ممكن يرجعوا وياخذوا أغراضك .
عاد للسيارة وقال : العمى بعيونن ، طفل فقير بيعملوا فيه هيك ؟؟
قال أبي : الله يعطيك العافية ، الله يديمك يا خيي .
لا يبرح من رأسي ذاك اليوم ، في احتفال ، دخل أحدهم ، صاحب منصب كبير ، متسلح بمنصبه ، تطاول ، وأصر أن يجلس بالمكان المخصص للفنانين صباح فخري ومنى واصف وفهد بلان . عامله الأستاذ صباح فخري بليونة ورفق ،،، وقف عمي فهد ، وبصوت واثق ، هدار ، قال لصاحب المنصب المرموق : شوف يااا .. يمر على مكانك ألف واحد مثلك كل عام ، وكلهم بيروحوا للنسيان ، بس صباح فخري ومنى واصف والفقير اللي قدامك فهد بلان ، يمروا مرة واحدة ما بتتثنّى ، وما بينتسوا .
وقصص كثيرة من هذا .
لكن ، لا تبرح رأسي كلمة تلك العجوز ، كانت تنوح وتنتحب من قعر قلبها بتاريخ ( 26 / 12/ 1997) وتقول : يا غبن قلبي على هالقرعة تروح ببن صخور الرجمة ، يا حيف يا حيييف على هالقرعة تنزل بالتراب .
كنت ألوم عيني على حزنها بعد مرور سنين ، ورحيل ثلاثة خلفه ، تمرّست على الحزن ، وأخذتُ لقاحه . رحلوا ، وأخذوا ملامحي الشخصية المرتبطة شرطياً بهم معهم ، كي لا تهاجمني العفاريت والجان في السهرات الجوفاء . تمرّست على الحزن وأخذت لقاحه ، قلت بأن النعاس قد أحكم قبضته على عيون الحزن بعد مرور تلك الأعوام . لكن ، الحزن ، أخو الشحطة ، ما كان ينام على ضيم ، ما كان ( يحطا واطية ) . بعد رحيل ذاك البهي الطلة ، ناري الطبع والشهامة ، جميل الهيئة أبو العامر . رحل قبل أن أكمل حديثي معه ، هذه المرة كان للحزن جولة متقنة ومُحكمة على قلبي أكثر وأكثر ، عرف كيف يلسعني ، من أين أتى بهدّافه اللعين هذا ؟؟ لا أدري .
ومازلت غير معافى منه ، هذه الجولة ، عرف الحزن كيف يناورني بقوله لي : يا أنا يا أنت .
ونوبة عليهم أشتكي ، نوبة على حالي .
ما عدت ألوم عيني لو بكت دمعها دمممممم ... ما عدت ألومها لو طوّلت بسهرها
الثلاثاء يوليو 15, 2014 12:26 pm من طرف لطفي الياسيني
» دموع
الثلاثاء يوليو 15, 2014 12:25 pm من طرف لطفي الياسيني
» سمراء
الثلاثاء يوليو 15, 2014 12:24 pm من طرف لطفي الياسيني
» انا الملوم انا الجاني على وطني / د. لطفي الياسيني
الثلاثاء يوليو 15, 2014 12:20 pm من طرف لطفي الياسيني
» مات الضمير وشيعوا جثمانه / د. لطفي الياسيني
الثلاثاء يوليو 15, 2014 12:17 pm من طرف لطفي الياسيني
» قصيدة في وصف فـلـسـطـيـن قبل النكبة / الحاج لطفي الياسيني
الثلاثاء يوليو 15, 2014 12:15 pm من طرف لطفي الياسيني
» الرحلة
السبت مايو 03, 2014 9:43 am من طرف تيسير نصرالدين
» حول الوضع الثقافي الراهن
الثلاثاء أكتوبر 29, 2013 6:07 pm من طرف mriame
» صباح ..................مساء الخير من الجنينة
السبت يناير 19, 2013 10:47 pm من طرف سوسن سين
» كبة البطاطا بالبرغل
السبت يناير 19, 2013 10:39 pm من طرف سوسن سين
» عثمنة الخطاب السني الرسمي
الأربعاء ديسمبر 26, 2012 11:30 am من طرف تيسير نصرالدين
» الصفقة الصفيقة
الخميس نوفمبر 22, 2012 6:07 pm من طرف تيسير نصرالدين
» الإعلام
الثلاثاء أكتوبر 16, 2012 5:16 pm من طرف تيسير نصرالدين
» مجموعة جديدة
الأحد سبتمبر 23, 2012 10:24 am من طرف تيسير نصرالدين
» ثورة الحرابيق
الأحد سبتمبر 23, 2012 10:09 am من طرف تيسير نصرالدين